اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ، أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟

عبر د. أحمد سامر العش
2.7K عدد المشاهدات

في وضعية التثاقلِ إلى الأرض يبدو أنَّ عضلاتِ اللسان تكونُ الأكثرَ تحررًا من باقي عضلات الجسم؛ ربما لأنَّها الأكثرُ بعدًا عن مركز الجاذبية والأقربُ إلى مركز الأوامر وهو الدماغ البشري! وتبدو حركةُ عضلاتِ اللسان في حيزها الضيق وهو حفرةُ الفم لها تأثيرٌ كبيرٌ في التعبير عن وجود الشخص من باقي أفعاله ونشاطاته. 

من كتاب العبوديةِ المختارة للكاتب والقاضي الفرنسي إتين دي لابويسيه (بالفرنسية: Étienne de La Boétie)‏ (1530، 1563) مؤسسِ الفلسفةِ السياسية الحديثة في فرنسا اقتبس الكلمات التالية: ” لا ريبَ في أنَّ الحريةَ إذا ذهبت تذهب معها الشجاعة؛ وذلك لأن من ألفوا الخضوع لا قِبلَ لهم بالحرب ولا همّة، يُساقون إليها سوقًا وكأنهم مقيدون ومخدّرون، يؤدّون واجبًا لا بدّ لهم من القيام به، ولا تغلي في صدورهم حُميّا الحرية التي تزدري الخطر وتُرغِّب المرء في أن يموتَ بين رفاقِه موتًا يُكسبه الشرف والمجد. غير أنَّ المستعبدين، علاوةً على فقدانهم هذه الشجاعةَ القتالية، يفقدون أيضًا الحيوية في كل شيء، قلوبُهم ضعيفةٌ ورخوةٌ عاجزةٌ عن كل أمرٍ عظيم. وهذا ما يعلمُه الطغاةُ جيدًا، فما إن يرونهم يميلون هذا الميلَ حتى يساعدوهم على أن يزدادوا خورًا.”

عندما أقرأ تلك العباراتِ أتذكر عنترة بن شداد (525 م – 608 م) الذي نشأ قبل لابويسيه La Boétie بألف عام في نجد عبدًا يرعى الإبل محتقَرًا في عين والده وأعمامه، لكنه نشأ شديدًا بطاشًا شجاعًا، كريمَ النفسِ كثيرَ الوفاء. لقد بدأت قصةُ عنترة حينما أغار بعض العرب على عبس واستاقوا إبلهم فقال له أبوه: كُرّ يا عنتر، فقال عنترة عبارةً تلخص تلك الكلمات التي تصفُ حالنا كعرب ومسلمين هذه الأيام: العبدُ لا يحسن الكَرّ إنّما يحسنُ الحِلاب والصّر، فقال كُرّ وأنت حُر، فقاتل قتالًا شديدًا حتى هزم القوم واستنقذ الإبل.

في بدايات الربيع العربي نفرَ الناس خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهمْ وَأَنفُسِهمْ لأنَّهم كعنترة اشتموا رائحة الحرية، وأولئك الذين ضحوا بكل شيءٍ هم كعنترةَ عاشوا عبيدًا في محيطهم لكنهم نشؤوا كرماء النفوس، رغم اضطهاد مَنْ حولهم لهم، ولم يكونوا منتفعين راضين بالفتات من متاع الحياة الدنيا، ذلك الفتات الذي يلقيه الطغاة مغمسًا بالذل والقهر.

هل سمعتم يومًا أنَّ المساعداتِ الإنسانيةَ صنعت شعبًا عظيمًا، أو أعادت بناءَ بلدٍ محطم؟ هل سمعتم يومًا أنَّ ما يُسمى برامج إعادة الإعمار صنعت دولة عظيمة حرة!  هل سمعتم يومًا أنَّ صندوق النقد الدولي ساهم في نهضة الشعوب من كَبْواتها التي كان صندوقُ النقد الدولي أحدَ صانعيها! أو أن برامج توطين اللاجئين بنت أوطان المهجرين أم أنَّها استُخدِمت لبناء أوطان المستقبلين وصناعة نهضتهم!؟

 برنامج الأونروا بعد مرور أربعٍ وسبعين سنة لم يساهم في بناء مسكن واحد يليق بإنسان حر، رغم أنَّه صرف التريليونات من الدولارات، بل زاد مأساة التشرد والعبودية!

إنَّها المعادلةُ نفسُها تتكرر:” مستبدٌ يساعد أصحاب القلوب الضعيفة الرخوة العاجزة عن النفور من وضع التثاقل على أن يزدادوا رخوةً وخورًا، وأين يمكن أن تجد هؤلاء مجتمعين أفضل من مخيمات اللجوء، ومروجين لهذه البرامج يعيشون حالة الوهم المريح الذي ما هو إلا مخدرٌ داخليٌ يبقيهم في حالة تصالح مع ذاتهم، وحياة أفضل بقليل من تلك التي يعيشها من يظنون أنَّهم المستفيدون من نشاطاتهم “.

في حالة التثاقل تكثُرُ الكلماتُ ومعارك وسائلِ التواصل تحت حماية الراعي الرسمي لهذه المعارك ” الكنبات والوسائد” التي هي رمزُ التثاقل للأرض عبر كلِّ الأزمنة، وتُغلق جميع النوافذِ التي يدخل من خلالها رائحةٌ الحرية التي تزكم أنوف من يعيشون الوهم المريح. 

في النهاية الكَيِّسُ من دَانَ نفسه، وعمل لِمَا بعد الموت، والعاجزُ من أتْبَعَ نفسه هواها وَتَمنَّى على الله الأماني.   

واللهُ من وراء القصد

Related Posts