بناء الدول المدمرة في زمن ما بعد كورونا

عبر د. أحمد سامر العش
تم النشر تم التعديل 37 عدد المشاهدات

بناء الدول المدمرة في زمن ما بعد كورونا

لطالما شكل بناء الدول التي دمرتها الحروب حصان طروادة لاستعباد الشعوب والسيطرة على مقدراتها ومستقبل أبنائها لعشرات وأحياناً لمئات السنين. ولكن في عصر ما بعد كورونا قد تمثل الهزة القوية التي أطاحت بعناصر السيطرة التقليدية ودينامياتها فرصة لإعادة بناء هذه الدول خارج القوالب المعدة مسبقاً بعناية محكمة من المنظومة الحاكمة.
لتوضيح انزياح النموذج في إعادة بناء الدول المدمرة علينا أن ندرك بشكل علمي الديناميات الجديدة التي سوف نبني عليها نموذجنا الخاص حتى لا يظن القارئ أننا نقدم فقط وجبة من الخيال العلمي.

الذكاء الاصطناعي ودوره القادم في تغيير مفهوم العمل وإعادة تعريف القطاعات
لدى البشر نوعان من القدرات – المادية والمعرفية. في الماضي، كانت الآلات تتنافس مع البشر بشكل أساسي في إطار القدرات البدنية فاحتلت مثلاً الحصادات والآلات الزراعية مكان الإنسان، بينما احتفظ البشر بميزة متقدمة على الآلات في مجالات الإدراك المعرفي. فمن جهة تم أتمتة الوظائف اليدوية في الزراعة والصناعة، ولكن من جهة أخرى ظهرت وظائف خدمية جديدة تتطلب نوعاً من المهارات المعرفية التي يمتلكها البشر فقط: كالتعلم، والتحليل، والتواصل وقبل كل شيء فهم العواطف البشرية. ومع ذلك، فإن الذكاء الاصطناعي بدأ الآن يتفوق على البشر في المزيد والمزيد من هذه المهارات (كالتعلم، والتحليل، والتواصل)، وحتى في فهم العواطف البشرية.

في العقود القليلة الماضية مكنت البحوث المتقدمة في مجال علم الأعصاب والاقتصاد السلوكي العلماء من اختراق بعض الأسرار البشرية، وعلى وجه الخصوص في اكتساب فهم أفضل لكيفية اتخاذ البشر للقرارات. اتضح أن اختياراتنا لكل شيء من الطعام حتى إلى اختيار الأصدقاء لا تنتج عن الحدس السحري الغامض، بل عن تفاعل مليارات الخلايا العصبية التي تحسب الاحتمالات في غضون جزء من الثانية. افتخار وتفوق بني البشر على الآلات بما يسمى “الحدس البشري” اكتشف على أنه في الواقع ما هو إلا القدرة على ما يسمى “التعرف على الأنماط”. فمثلاً ليس لدى السائقين والمصرفيين والمحامين الجيدين حدس سحري سواءً حول حركة المرور أو الاستثمار أو التفاوض – لكنهم من خلال خبراتهم المتراكمة في التعرف على الأنماط المتكررة، يكتشفون ويحاولون تجنب المشاة والسائقين المهملين، أو رفض طلبات المقترضين غير الأكفاء لإعادة تسديد القروض وكذلك اكتشاف المحتالين غير النزيهين. اتضح أيضاً أن الخوارزميات البيوكيميائية للدماغ البشري بعيدة عن الكمال ويتفوق عليها الذكاء الاصطناعي. فالبشر مازالوا يعتمدون في كثير من الحالات على الاستدلالات والاختصارات التي هي أقرب إلى نمطية تفكير الإنسان البدائي. لا عجب لذلك في أن نرى حتى السائقين والمصرفيين والمحامين المحترفين يرتكبون أحياناً أخطاء غبية جداً.

هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتفوق على البشر حتى في المهام التي يفترض أنها تتطلب “الحدس البشري”. طبعاً الذكاء الاصطناعي لا يستطيع منافسة النفس البشرية من حيث الإحساس الغامض الذي يعجز العلم عن فك أسراره إلى الآن. ولكن إذا دخل الذكاء الاصطناعي التنافس ضد الشبكات العصبية في حساب الاحتمالات والتعرف على الأنماط فالفوز بالتأكيد سيكون من نصيب الذكاء الاصطناعي.

أضف إلى ما سبق أن هناك اثنين من القدرات الهامة جداً تمتلكها الروبوتات والذكاء الاصطناعي (AI) لا يملكها البشر وهي سرعة الاتصال وسهولة التحديث مثال ذلك إلغاء دواء أو إدخال طريقة علاجية حديثة أو تطبيق قوانين مرور جديدة فالأجهزة على العموم تملك خاصية التواصل والتحديث أسرع وأفضل من البشر.

بالتالي فإن التهديد بفقدان الوظائف في المستقبل وإعادة تعريف القطاعات التي سيتخلى فيها الإنسان عن دوره لصالح الروبوتات والذكاء الاصطناعي لا ينتج فقط عن صعود تكنولوجيا المعلومات بل ينتج عن التقاء تطور تكنولوجيا المعلومات بالتطور في فهم التكنولوجيا الحيوية. ما يتعلمه علماء الدماغ اليوم عن الجملة العصبية قد يجعل من الممكن لأجهزة الكمبيوتر أن تتفوق على البشر في قطاعات لم نتخيلها من قبل!

فوق ما سبق سأضيف جزءاً أخر من التشويق للقارئ، لطالما اعتبرنا نحن البشر أن الإبداع هو المساحة التي لا يمكن للآلة والذكاء الاصطناعي أن ينافسنا بها ولكن -وكما ذكرت في بحث سابق بعنوان (الثروة أو الأخلاق) -في شهر 12 عام 2017 أصبح هناك نقطة تحول تاريخية عندما استطاع برنامج AlphaZero التفوق على برنامج Stockfish 8. تتفوق الآن العديد من البرامج مثل AlphaZero بشكل روتيني على لاعبي الشطرنج البشري، ليس فقط في الحساب ودراسة أنماط التفكير، ولكن حتى في “الإبداع”. فعلى سبيل المثال، في بطولات الشطرنج البشرية، يبحث الحكام باستمرار عن اللاعبين الذين يحاولون الغش بالحصول على المساعدة من أجهزة الكمبيوتر سراً. العجيب أنّ إحدى أهم الطرق في التقاط الغش هي مراقبة مستوى الأصالة التي يمارسها اللاعبون. فإذا لعبوا خطوة إبداعية استثنائية، فغالباً ما يشتبه الحكام في أن هذه لا يمكن أن تكون خطوة بشرية – وأنها غالباً حركة كمبيوتر. على الأقل في لعبة الشطرنج، يعد الإبداع الآن علامة تجارية لأجهزة الكمبيوتر وليس البشر! وبناءً عليه، ما يحدث اليوم لفرق الشطرنج بين البشر والذكاء الاصطناعي قد يحدث مستقبلاً في مجال الأمن والطب والتعليم والخدمات المالية وغيرها وبالطبع مع ما يترتب عليه من تبعات.

مفهوم جديد للإنتاج عن بعد وأمثلة من قطاعين سيغير فيهم الذكاء الاصطناعي وكورونا مفهوم العمل في المستقبل القريب

بعد استعراضنا للفوائد التي سيقدمها الذكاء الاصطناعي والتطور في فهم التكنولوجيا الحيوية، من المرجح أن تكون الفوائد للمجتمع البشري هائلة وكذلك للمجتمعات في الدول المدمرة التي تريد تطبيق نظرية الدرونز التركي (التي سبق وشرحتها وتعني حرق المراحل والبدء حيث انتهى الآخرون). سنضرب الآن مثالاً عن قطاعين كبيرين وهما قطاع الصحة والتعليم حيث سيشهد هذان القطاعان تغيراتٍ شديدةً في السنوات القادمة مما يعني ظهور مشاكل بفقد وظائف وضرورة إعادة توجيه الفاقدين لوظائفهم إلى مناطق أخرى داخل قطاعهم أو خارجه وكذلك فرص بخفض الكلف وتحسين الخدمات خاصة للدول والأفراد المحرومين. يقول الخبراء بخصوص هذه النقطة إنه سيكون من الجنون منع الأتمتة في مجالات مثل التعليم والرعاية الصحية فقط من أجل حماية الوظائف البشرية. وحجتهم في ذلك أن ما يجب علينا حمايته في نهاية المطاف هو البشر – وليس الوظائف. وبالتالي سيتعين على المعلمين والأطباء الفائضين فقط العثور على شيء آخر للقيام به أو خلق وظائف جديدة لهم.

التغيرات القادمة في القطاع الصحي وماهي الفرص والمخاطر؟
يقول الخبراء؛ بفضل خوارزميات التعلم والذكاء الاصطناعي (AI) وكذلك أجهزة الاستشعار البيومترية، يمكن لمنظمات الصحة الوطنية والدولية في السنوات القليلة القادمة توفير رعاية صحية أفضل وأرخص بكثير لملايين الأشخاص، خاصة لأولئك الذين لا يتلقون حالياً رعاية صحية على الإطلاق. سوف يتمتع قروي فقير في بلد متخلف ومدمر برعاية صحية أفضل بكثير عبر هاتفه الذكي مما يحصل عليه أغنى شخص في العالم اليوم من المستشفى الأكثر تقدماً.

ويضيف الخبراء؛ من المحتمل في المستقبل القريب أن يتم استبدال أطباء الذكاء الاصطناعي بالأطباء العامين GPs الذين يركزون على تشخيص الأمراض المعروفة وإدارة العلاجات المألوفة وإعادة توجيه هؤلاء الأطباء الى اختصاصات أعلى أو تدريبهم ليكونوا خبراء في المعامل لإجراء أبحاث طبية رائدة أو تطوير أدوية جديدة أو طرق جراحية جديدة.

برأيي على الأقل في المدى القصير، من غير المحتمل أن يؤدي الذكاء الاصطناعي والروبوتات للقضاء تماماً على الوظائف الصحية بأكملها. سيتم أتمتة الوظائف التي تتطلب التخصص في مجموعة ضيقة من الأنشطة الروتينية. ولكن سيكون من الأصعب بكثير استبدال الآلات بالبشر في وظائف أقل روتينية تتطلب الاستخدام المتزامن لمجموعة واسعة من المهارات، والتي تنطوي على التعامل مع سيناريوهات غير متوقعة. على سبيل المثال، يركز العديد من الأطباء بشكل حصري تقريباً على معالجة المعلومات: فهم يجمعون البيانات الطبية ويحللونها وينتجون التشخيص. لكن على النقيض من ذلك، تحتاج الممرضات أيضاً إلى مهارات حركية وعاطفية جيدة من أجل إعطاء حقنة مؤلمة، أو استبدال ضمادة، أو كبح جماح مريض مضطرب عنيف. وبالتالي سيكون لدينا على الأرجح طبيب عائلة AI على الهاتف الذكي قبل أن يكون لدينا روبوت ممرضة يمكن الاعتماد عليه. من المرجح أن تظل صناعة الرعاية البشرية – التي تعتني بالمرضى والشباب والمسنين – معقلًا للعنصر البشري وليس للآلة لفترة طويلة. في الواقع، عندما نتوقع أن يعيش الناس لفترة أطول ويكون لديهم عدد أقل من الأطفال، من المحتمل أن تكون رعاية المسنين واحدة من أسرع القطاعات نمواً في سوق العمل البشري داخل القطاع الصحي.

طبعاً إن الهدف من طرحنا لهذا التصور الذي هو قادم لا محالة في المستقبل القريب هو ذو شقين؛ الشق الأول : هو إعادة التفكير في بناء البنى الصحية في بلادنا الإسلامية وغير الإسلامية المدمرة بما يشبه سيناريو الدرونز التركي وبالتالي توفير مليارات الدولارات التي لا تخدم سوى تمكين المنظومة الحاكمة أما الشق الثاني : هو الاستفادة من الطاقات البشرية الهائلة للكوادر الطبية لهذه البلدان المدمرة و المنتشرين في دول العالم المتقدمة في إنشاء مشاريع ربحية من هذا النوع تقوم على بناء جسر عملي لخدمة أبناء بلدهم دون تغيير جذري في نمط حياتهم ومكان إقامتهم وتحويل جزء من عائدات المشروع لدعم أبناء بلدهم في إعادة التمكين وهذا ما سنتحدث عنه لاحقاً عندما نتناول فكرة الدخل الأساسي الوطني (National basic income-NBI).

التغيرات القادمة في قطاع التعليم وماهي الفرص والمخاطر؟
لنفهم التغيرات التي سوف تطرأ على قطاع التعليم علينا أن نفهم التغييرات التي سوف تطرأ على سوق العمل العالمي والمحلي:
وظائف جديدة؟

أدى استبدال الطائرات الحربية التي يقودها البشر إلى طائرات بدون طيار إلى القضاء على بعض الوظائف التقليدية ولكنه أوجد في نفس الوقت العديد من الفرص الجديدة في الصيانة والتحكم عن بُعد وتحليل البيانات والأمن المعلوماتي السيبراني. على سبيل المثال تحتاج القوات المسلحة الأمريكية إلى ثلاثين شخصاً لتشغيل كل طائرة بدون طيار من طراز Predator أو Reaper تحلق في الأجواء فوق سوريا، ولتحليل المعلومات التي جمعتها هذه الطائرات يعمل ثمانون شخصاً على الأقل أو أكثر. في عام 2015، كانت القوات الجوية الأمريكية تفتقر إلى عدد كافٍ من الأشخاص المدربين لشغل جميع هذه المناصب، وبالتالي واجهت وزارة الدفاع الأمريكية أزمة في إدارة طائراتها التي بدون طيار. وبناءً عليه قد يساعد الذكاء الاصطناعي في إنشاء وظائف بشرية جديدة بطريقة أخرى ومفهوم جديد بمعنى أنه بدلاً من تنافس البشر مع الذكاء الاصطناعي، يمكنهم التركيز على خدمة الذكاء الاصطناعي والاستفادة منه. وبالتالي فقد يتميز سوق العمل في المستقبل بالتعاون بين الإنسان والذكاء الاصطناعي بدلاً من المنافسة. في مجالات تتراوح من الخدمات الأمنية إلى الخدمات المالية المصرفية، يمكن أن تتفوق فرق البشر المعززة والمدعومة بالذكاء الاصطناعي على كل من الفرق البشرية وحدها أو أجهزة الكمبيوتر وحدها. بعد فوز برنامج ديب بلو للشطرنج من شركة IBM على غاري كاسباروف عام 1997، لم يتوقف البشر عن لعب الشطرنج. بدلاً من ذلك، وبفضل مدربي الذكاء الاصطناعي، أصبح سادة الشطرنج البشري أفضل من أي وقت مضى، وعلى الأقل لفترة من الوقت، تفوقت فرق الذكاء الاصطناعي البشرية المعروفة باسم “ centaurs وهو كائن خرافي له رأس ويدان وصدر بشري وأقدام وجذع حصان” على كل من البشر وحدهم وأجهزة الكمبيوتر في الشطرنج. وبالمثل، قد يساعد الذكاء الاصطناعي في إعداد وتكوين وتأهيل أفضل المحققين والمحللين الماليين والمصرفيين أو حتى الجنود في التاريخ.

تحديات الوظائف في المستقبل والمهارات اللازمة لها
في المستقبل (ربما القريب) عندما يفقد أمين صندوق أو عامل نسيج وظيفته أمام الروبوت فلن يكون قادراً على بدء العمل كباحث في السرطان، أو كمشغل طائرات بدون طيار، أو كجزء من فريق مصرفي مشترك بشري AI، ذلك لأنهم لن تكون لديهم المهارات اللازمة والتعليم الكافي. في الحرب العالمية الأولى كان من المنطقي إرسال الملايين من المجندين لشحن المدافع الرشاشة والموت بالآلاف. مهاراتهم الفردية لم يكن لها أهمية تذكر. اليوم، على الرغم من النقص في مشغلي الطائرات بدون طيار ومحللي البيانات، فإن القوات الجوية الأمريكية غير راغبة في سد الثغرات من المطرودين من شركات Pfizer أو Walmart لأنها لن ترغب في تجنيد قليلي الخبرة لأن الكوارث ستكون كبيرة (مثال ذلك الحادثة الشهيرة بقصف عرس أفغاني على أنه اجتماع سياسي لطالبان).
وبالتالي، على الرغم من ظهور العديد من الوظائف البشرية الجديدة، فقد نشهد مع ذلك ظهور طبقة جديدة “عديمة الفائدة” لعدم امتلاكها المهارات اللازمة لشغل هذه الوظائف والكارثة سوف تكون عندما نحصل على أسوأ سيناريو، بمعنى أن نعاني في نفس الوقت من ارتفاع البطالة ونقص العمالة الماهرة. قد يشترك الكثير من الناس ليس في مصير سائقي عربات الجر بالأحصنة من القرن التاسع عشر – الذين تحولوا إلى قيادة سيارات الأجرة – ولكن قد يصبح مصيرهم مصير خيول القرن التاسع عشر، الذين تم دفعهم بشكل متزايد للخروج من سوق العمل تماماً.

بالإضافة إلى ذلك، لن تكون أي وظيفة بشرية متبقية في مأمن من خطر الأتمتة المستقبلية، لأن التعلم الآلي والروبوتات سيستمران في التحسن. مثلاً سيدة تبلغ من العمر أربعين عاماً عاطلة عن العمل من وول مارت تمكنت من خلال الجهود الخارقة لإعادة تأهيل نفسها كطيار بدون طيارة ولكنها قد تضطر إلى إعادة تأهيل نفسها مرة أخرى بعد ذلك بعشر سنوات، لأنه بحلول ذلك الوقت ربما يكون طيران الطائرات بدون طيار قد تم أتمتة أيضاً. كما أن هذا التقلب سيزيد من صعوبة تنظيم النقابات أو تأمين حقوق العمل. بالفعل اليوم، تتضمن العديد من الوظائف الجديدة في الاقتصادات المتقدمة عملاً مؤقتاً غير محمي، وموظفين لمهمة واحدة. وبذلك يصبح التحدي الكبير الذي سنواجه في المستقبل القريب؛ كيف سوف نقوم بتكوين مهنة تظهر وتختفي في غضون عقد من الزمان؟

وبالتالي، لن يكون إنشاء وظائف جديدة وإعادة تدريب الأشخاص لملئها جهداً لمرة واحدة فقط. كذلك لن تكون ثورة الذكاء الاصطناعي حدثاً فاصلاً لمرة واحدة فقط، وبعدها سيستقر سوق العمل ويعود للتوازن من جديد. بدلاً من ذلك، سيكون هناك سلسلة طويلة من الاضطرابات المتزايدة باستمرار. يتوقع اليوم عدد قليل من الموظفين أن يعملوا في نفس الشركة طوال حياتهم. ولكن بحلول عام 2050، ليس فقط فكرة “وظيفة مدى الحياة”، ولكن حتى فكرة “مهنة مدى الحياة” ستكون قديمة بالتأكيد.

من الواضح أن معظم هذا مجرد تكهنات. في أوائل عام 2018 – عطلت الأتمتة العديد من الصناعات لكنها لم تسفر عن بطالة هائلة. في الواقع، في العديد من البلدان، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وصلت البطالة إلى مستوى تاريخي منخفض. لا أحد يستطيع أن يعرف على وجه اليقين نوع تأثير التعلم الآلي والأتمتة على المهن المختلفة في المستقبل، ومن الصعب للغاية تقدير الجدول الزمني للتطورات ذات الصلة، خاصة لأنها تعتمد على القرارات السياسية والتقاليد الثقافية بقدر ما تعتمد على محض اختراقات تكنولوجية. وهكذا حتى بعد أن أثبتت المركبات ذاتية القيادة أنها أكثر أمانًا وأرخص من السائقين البشر، ومع ذلك، قد يمنع السياسيون والمستهلكون التغيير لسنوات، وربما لعقود.

التعليم الذي يجب على منظومتنا ودولنا المدمرة اكتسابه
الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجليتز Joseph Eugene Stiglitz الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد والأستاذ في جامعة كولومبيا ومؤلف كتاب “الناس، والسلطة والأرباح(1)”، يقول إن على المشرعين إعطاء الأولوية للسياسات التي تساعد خريجي المدارس الثانوية والكليات. وإلا، فإن الولايات المتحدة تُخاطر بمواجهة “جيل ضائع” من العمال.

يقول ستيجليتز في حديث له في 2 يونيو 2020 “يجب أن يكون كل شاب إما في مدرسة أو في وظيفة أو في تدريب بطريقة ما”. “هذه سنوات ثمينة، لا يجب أن تضيع تلك السنوات في الشعور بالانفصال والاستياء. لذا سأضع أولوية عالية حقاً على هذا النوع من البرامج “.

في المستقبل القريب الهياكل التقليدية للتعليم -كما سبق وذكرت في بحث العلم والخبرة والفكر في المستقبل- والتي ورَثَّتها الثورة الصناعية والمستندة إلى مفهوم شريط الإنتاج الضخم لم تعد كافية لتلبية متطلبات واحتياجات سوق العمل المستقبلية. هذه الهياكل الخرسانية التي ضربت في بلداننا المتخلفة بعرض الحائط القواعد الأربع لضرورات وبيئات العمل في نهايات القرن العشرين (التفكير النقدي، التواصل، التعاون والإبداع) لم تعد تصلح لمتطلبات سوق العمل ما قبل كورونا. والآن حتى هذه المهارات الأربع التي ذكرناها (والتي لم تمتلكها هياكلنا التعليمية يوماً حتى في مدارس النخبة) لم تعد كافية لمتطلبات زمن ما بعد كورونا أي بعد 2020. ومع الأسف ما زال واضعوا الاستراتيجيات التعليمية في بلداننا المدمرة، يحلمون بها ليجدوا أنفسهم بعد صرف المليارات في إعادة تأهيل البنى التحتية المدمرة من صندوق النقد الدولي والمنظومة الحاكمة كمن يعمل مصنع لصناعة العربات التي تجرها الأحصنة في زمن القيادة الذاتية للسيارات!

بناءً على كل ما سبق فإن تبني نموذج تعليم وتدريب كما في النموذج الطبي ليشكل جسراً لربط الخبرات العلمية العالية لخبراء الدول المدمرة الذين يتبوءون أعلى المناصب في السلك التعليمي في جامعات النخبة حول العالم لبناء نموذج تعليم يشبه سيناريو الدرونز التركي ويعود بجزء من أرباحه لدعم برنامج الدخل الأساسي الوطني (2)(National basic income-NBI) أحد أهم الخطوات في الاتجاه الصحيح لإعادة بناء الدول التي دمرتها الحروب كسوريا، العراق، اليمن، أفغانستان، مصر وكثير من الدول الإسلامية وغير الإسلامية في أفريقيا وآسيا.

بُنى عملية جديدة لا تخالف الطبيعة البشرية (حواضن مشاريع بمفهوم جديد)
بعد استعراضنا للبنى الجديدة للتعليم والصحة وقبلها الزراعة وتربية الحيوان والتي تجعل فاتورة إعادة الإعمار لدولنا المدمرة وإعادة توطين الإنسان وتمكينه في بيئاته الأم أقرب إلى ديناميات العصور القادمة ونظرية الدرونز التركي والمنهج المحمدي بخط طريق الإعمار لكل البشر لتقريبهم من خالقهم ومحاربة المنظومة الشيطانية. يجب أن أوضح أن هذا الحديث ليس محض خيال علمي أو مشاريع صعبة التنفيذ، فالسياق التاريخي للمشاريع التي شكلت منعطفات في التطور البشري بسلبياتها وإيجابياتها سارت بمسلك وتحديات مشابهة وإن كنا نختلف في الأهداف والرُؤى خاصة في الشق السردي الإلهي لمعنى وجودنا وماهية تكليفنا فإن من صنع التغيير الفعال هو من تلقف المتغيرات وهم بالعمل قبل غيره.

في القرن التاسع عشر، خلقت الثورة الصناعية ظروفاً ومشكلات جديدة لم يستطع أي من النماذج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في وقتها مواجهتها. فعلى سبيل المثال لم يتم تكييف الإقطاع والملكية والكنيسة لإدارة المدن الصناعية، أو التعامل مع ملايين العمال المهجرين، أو حتى الطبيعة المتغيرة باستمرار للاقتصاد الحديث. وبالتالي، كان على البشرية تطوير نماذج جديدة تماماً – الديمقراطيات الليبرالية والديكتاتوريات الشيوعية والأنظمة الفاشية – واستغرق الأمر أكثر من قرن من الحروب والثورات الرهيبة لتجربة هذه النماذج، لمحاولة تنفيذ أفضل الحلول. شكلت عمالة الأطفال في مناجم الفحم الأوروبية، والحرب العالمية الأولى والمجاعة الأوكرانية العظيمة لعام 1932–1933 والتدمير لجزء كبير من دول العالم الإسلامي وإبادة أجناس بشرية بكاملها جزءاً من الفاتورة التي دفعتها البشرية لتتعلم الدرس.

يمكن القول إن التحدي الذي طرحه الجنس البشري والتكنولوجيا الحيوية في القرن الحادي والعشرين أكبر بكثير من التحدي الذي فرضته في السابق المحركات البخارية والسكك الحديدية والكهرباء. وبالنظر إلى القوة المدمرة الهائلة لما يسمى اصطلاحاً وليس حقيقةً الحضارة الحالية (الجاهلية الثانية!)، فإننا لا نستطيع تحمل المزيد من النماذج الفاشلة والحروب العالمية والثورات الدموية. في هذه المرة، قد تؤدي النماذج الفاشلة إلى حروب نووية، وصنع وحوش هندسية وراثية، وانهيار كامل للمحيط الحيوي وبيئة الأرض. وبالتالي، يتعين علينا أن نفعل أفضل مما فعلنا في مواجهة الثورة الصناعية.

لطالما نجح الغرب في خلق النماذج والبيئات العملية الجاذبة للكفاءات البشرية وفي نفس الوقت خلق على الطرف الأخر (غالباً بلدان العالم الثالث التي بغالبيتها مسلمة) البيئات والنماذج الطاردة للكفاءات. فتجد أن النظم الصحية والتعليمية وحتى الصناعية في الغرب المتقدم تقوم بجزء مهم منها على هذه الكفاءات التي هربت من بيئاتها الظالمة وذهبت لأحضان البيئات الجاذبة العادلة. لطالما عانت هذه الكفاءات من صراع نفسي طويل في رغبتها بصنع التغيير في بيئاتها الأم وإعادة بناء مجتمعاتها دون أن تجد الوسائل أو الجسور أو حتى الأدوات.

إن الذكاء الصناعي والديناميات الجديدة لعصر ما بعد كورونا والتي استعرضنا جزءاً منها تمثل فرصة استثنائية لإعادة بناء هذه الجسور دون إحداث ألم في حياة هؤلاء الخبراء يتعارض مع الطبيعة البشرية التي تميل للسكون والاستقرار. فهذه المشاريع العملية سواء في التعليم أو الصحة أو الزراعة والتي ستكون خدماتها سواء من المزود أو الزبون غير مرتبطة بالمكان الفيزيائي بقدر ما تعتمد على المعرفة، خوارزميات الذكاء الاصطناعي AI، واستقراء المستقبل، والمرونة في خلق الهياكل التي يمكن أن تسبق حتى حركة الأنظمة الحاكمة العملاقة والتي بطبيعتها تفتقد للمرونة التي يحتاجها سوق العمل وآلياته في المستقبل القريب.

فيمكن مثلاً للأطباء السوريين والعراقيين والباكستانيين والمصريين والهنود الموجودين في أمريكا معالجة المرضى في العالم وفي بلدانهم بأرقى الخدمات وأقل الجهد والكلف وتخصيص جزء من أرباح المشروع لدعم برنامج الدخل الأساسي الوطني في بلدانهم كل هذا دون أن يضطروا لهجرة أماكنهم المستقرة أو تغيير مكان عملهم أو حتى مدارس أولادهم في أمريكا أو أوروبا أو شرق آسيا.

مفهوم جديد لتغطية الحاجات الأساسية في البلدان المدمرة -برنامج الدخل الأساسي الوطني (2):
عالمياً أين تتجه منظومة فرعون في التفكير بناءً على معطيات كورونا، ومأزق الليبرالية الاقتصادية الجديدة، واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي
يقول فرانسيس فوكوياما في حديث له نشر في يونيو 2020 عن جائحة كورونا وانعكاسها على الاقتصاد والسياسة والمجتمعات (3)؛ “قد سلط الوباء ضوءاً ساطعاً على المؤسسات القائمة في كل مكان، كاشفاً عن أوجه قصورها وضعفها. وقد تعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، سواء بين الناس أو حتى البلدان، وبسبب الأزمة سوف تزداد تلك الفجوة حدة خلال الركود الاقتصادي الذي طال أمده. ولكن إلى جانب هذه المشكلات، كشفت الأزمة أيضاً عن قدرة الحكومات على توفير الحلول بالاعتماد على الموارد الجماعية في هذه العملية.

وقد يضع هذا حداً للأشكال المتطرفة من الليبرالية الجديدة، وهي أيديولوجيا السوق الحرة التي ابتكرها خبراء الاقتصاد من جامعة شيكاغو، مثل غاري بيكر، وميلتون فريدمان، وجورج ستيجلر، خلال ثمانينيات القرن العشرين، فقد قدمت مدرسة شيكاغو تبريراً فكرياً لسياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، والتي اعتبرت الحكومة الضخمة المتمددة عقبة في طريق النمو الاقتصادي والتقدم البشري.

في ذلك الوقت، كانت هناك أسباب وجيهة لتقليص العديد من أشكال الملكية الحكومية والتنظيم؛ لكن الحجج تصلبت وتحولت إلى دين ليبرالي، غُرِس العداء لعمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين؛ خصوصاً في الولايات المتحدة. ونظراً لأهمية اتخاذ الدولة إجراءات قوية لإبطاء انتشار وباء كورونا، سيكون من الصعب القول، كما قال ريغان في خطاب تنصيبه الأول، إن “الحكومة ليست الحل لمشكلتنا؛ الحكومة هي المشكلة” (4)، حيث لن يتمكن أي شخص من تقديم حجة معقولة مفادها أن القطاع الخاص والأعمال الخيرية يمكن أن تحل محل دولة مختصة أثناء حالة الطوارئ الوطنية.

إن أكبر متغير في الأزمة هو الولايات المتحدة. وكان من سوء حظها أن يكون القائد الأكثر عجزاً وإثارة للخلاف في تاريخها الحديث على رأس السلطة عندما ضربت الأزمة، حيث لم يتغير أسلوب حكمه تحت الضغط. فبعد أن أمضى فترة ولايته في الحرب مع الدولة التي يترأسها، لم يتمكن من توظيف الدولة بشكل فعال عندما اقتضى الأمر ذلك. وهو الذي اعتبر أن أفضل وسيلة لخدمة ثروته السياسية يأتي عبر المواجهة والضغينة بدلاً من الوحدة الوطنية، واستغل الأزمة لشن المعارك وزيادة الانقسامات الاجتماعية. وإذا كان ضعف الأداء الأمريكي أثناء الوباء له عدة أسباب؛ فإن أهمها الزعيم الوطني الذي فشل في القيادة.”

يضيف فوكوياما “ومع مرور أكثر مراحل الأزمة إلحاحاً ومأساوية، فإن العالم يتحرك نحو دوامة طويلة من الكساد. وسوف يخرج منها في نهاية المطاف بانقسامات أسرع من غيرها. ومن غير المرجح أن تحدث اضطرابات عالمية عنيفة. وإذا كانت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة قد أثبتت قدرتها على التحول والتكيف من قبل، فإنها ستحتاج إلى القيام بالمستحيل هذه المرة.

وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن الأزمة التي طال أمدها ستعاني المزيد من الإخفاقات والدمار في قطاع الأعمال لصناعات مثل مراكز التسوق، وسلاسل البيع بالتجزئة، والسفر. وقد ظلت مستويات تركز السوق في الاقتصاد الأمريكي ترتفع بشكل مضطرد لعقود؛ لكن الوباء سيدفع هذا الاتجاه إلى أبعد من ذلك. ولن يتسنى إلا للشركات الكبيرة ذات رؤوس الأموال الضخمة أن تخرج من العاصفة، مع مكاسب لعمالقة التكنولوجيا أكثر من أي مجال آخر؛ حيث أصبحت التفاعلات الرقمية أكثر أهمية من أي وقت مضى.

إن استمرار انتشار وباء كورونا إلى جانب فقدان الوظائف بشكل كبير، والركود طويل الأمد، وعبء الديون غير المسبوق، سوف يخلق حتماً توترات تتحول إلى رد فعل سياسي عنيف، ولكن ضد من؟ لم يتضح الأمر بعد!

وعلى مدى السنوات القادمة، قد يؤدي هذا الوباء إلى انحدار نسبي للولايات المتحدة، واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي، وعودة الفاشية في جميع أنحاء العالم. كما يمكن أن يؤدي أيضاً إلى ميلاد جديد للديمقراطية الليبرالية، وهو النظام الذي أربك المتشككين مرات عديدة، وأظهر قدراً غير مسبوق من القدرة على الصمود والتجديد. وسوف تظهر عناصر من كلا الطيفَين، في أماكن مختلفة؛ ولكن من المؤسف أن التوقعات العامة قاتمة ما لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل جذري.
إن الآمال في تحقيق انتعاش على شكل حرف (V) بمقاييس الأداء الاقتصادي متفائلة إلى حد كبير. فعلى الأرجح ستكون على شكل (L) ذي ذيل طويل ينحني لأعلى أو سلسلة من الصعود والهبوط. والاقتصاد العالمي لن يعود إلى أي شيء مماثل لحالة ما قبل جائحة كورونا في وقتٍ قريب.”

فكرة الدخل الأساسي العالمي UBI مقابل فكرة الدخل الأساسي الوطني NBI (2)
أحد النماذج الجديدة، التي تحظى باهتمام متزايد في دوائر النخب الاقتصادية ما قبل كورونا وستزداد ما بعد كورونا، هو فكرة الدخل الأساسي العالمي UBI. يقترح UBI أن تفرض الحكومات ضرائب على المليارديرات والشركات التي تتحكم في الخوارزميات والروبوتات، وتستخدم الأموال لتزويد كل شخص براتب سخي يغطي احتياجاته الأساسية (طعام، سكن، تعليم، صحة، نقل …الخ). سيعمل ذلك على حماية الفقراء من فقدان الوظائف والتشرد الاقتصادي، وكذلك يُمكن من حماية الأغنياء من الغضب الشعبي الذي قد ينتهي بثورة مدمرة. تقترح فكرة ذات صلة توسيع نطاق الأنشطة البشرية التي نعتبرها “وظائف”. فمثلاً في الوقت الحاضر، يعتني ملايين الآباء والأمهات بالأطفال، وكذلك الجيران يرعون بعضهم بعضاً، وينظم المواطنون المجتمعات والفعاليات الثقافية والاجتماعية المحلية، دون الاعتراف بأي من هذه الأنشطة القيمة كوظائف. يقول خبراء الاجتماع والاقتصاد الدوليون، ربما نحتاج إلى تحويل المفتاح في أذهاننا، وإدراك أن رعاية الطفل يمكن القول إنها أهم وظيفة وأكثرها تحدياً في العالم. إذا كان الأمر كذلك، فلن يكون هناك نقص في العمل حتى إذا حلت أجهزة الكمبيوتر والروبوتات محل جميع السائقين والمصرفيين والمحامين وحتى أصحاب المهن البسيطة. لكن السؤال المهم هنا؛ هو بالطبع من سيقيم ويدفع لهذه الوظائف المعترف بها حديثاً؟

طبعاً يمكن للحكومات دعم الخدمات الأساسية الشاملة بدلاً من الدخل. فبدلاً من تقديم الأموال إلى الناس، الذين يتسوّقون بعدها ما يريدون بهذه الأموال، قد تدعم الحكومة التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية والنقل المجاني وما إلى ذلك. هذه في الواقع الرؤية المثالية للشيوعية التي لم تتحقق ونافت الطبيعة البشرية التي تكره التساوي وتحب التفاخر والتميز ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ [الحديد: 20]. على الرغم من أن الخطة الشيوعية قد عفا عليها الزمن، ربما لا يزال يتعين علينا أن نهدف إلى تحقيق الهدف الشيوعي لكن بوسائل أخرى وخاصة لأكثر الاحتياجات اساسيةً؟
إنه أمر قابل للنقاش ما إذا كان من الأفضل تزويد الناس بالدخل الأساسي الشامل (الجنة الرأسمالية في الغرب) أو الخدمات الأساسية الشاملة (الجنة الشيوعية-سابقاً). كلا الخيارين لهما مزايا وعيوب. ولكن بغض النظر عن الجنة التي تختارها، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في تحديد معنى مبادرة الدخل الأساسي هل هو “عالمي” أو “محلي”.

ما هو عالمي وما هو محلي؟
عندما يتحدث الناس عن الدعم الأساسي الشامل – سواء في شكل الدخل أو الخدمات – فإنهم عادة ما يعنون الدعم الأساسي الوطني. حتى الآن، كانت جميع مبادرات UBI وطنية أو بلدية بحتة. في يناير 2017، بدأت فنلندا تجربة لمدة عامين، حيث قدمت ل 2000 فنلندي عاطل عن العمل بدل 560 يورو شهرياً، بغض النظر عما إذا كانوا يجدون عملاً أم لا. تجارب مماثلة جارية في مقاطعة أونتاريو الكندية، في مدينة ليفورنو الإيطالية، وفي العديد من المدن الهولندية (في عام 2016، عقدت سويسرا استفتاء على وضع مخطط وطني أساسي للدخل، ولكن الناخبين رفضوا الفكرة).

ومع ذلك، فإن المشكلة في مثل هذه الخطط الوطنية والبلدية هي أن الضحايا الرئيسيين للأتمتة قد لا يعيشون في فنلندا أو أونتاريو أو ليفورنو أو أمستردام. لقد جعلت العولمة الناس في بلد ما يعتمدون بشكل كامل على الأسواق في البلدان الأخرى، ولكن الأتمتة قد تكشف وتدمر أجزاء كبيرة من شبكة التجارة العالمية هذه مع عواقب وخيمة ستقع بالأخص على الحلقة الأضعف في المعادلة. في القرن العشرين، حققت البلدان النامية التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية تقدماً اقتصادياً بشكل رئيسي من خلال بيع العمالة الرخيصة لعمالها غير المهرة. اليوم الملايين من البنغاليين يكسبون قوتهم من خلال إنتاج القمصان وبيعها للعملاء في الولايات المتحدة، بينما يكسب الأشخاص في بنغالور-الهند دخلهم من مراكز الاتصال والخدمة (Call Centers) التي تتعامل مع شكاوى العملاء الأمريكيين والأوروبيين.

ولكن مع ظهور الذكاء الاصطناعي، والروبوتات والطابعات ثلاثية الأبعاد، ستصبح العمالة الرخيصة غير الماهرة أقل أهمية بكثير. بدلاً من تصنيع قميص في دكا-بنغلاديش وشحنه بالكامل إلى الولايات المتحدة، يمكنك شراء رمز القميص عبر الإنترنت من Amazon، وطباعته في نيويورك. كذلك في الزمن القريب يمكن استبدال متاجر Zara وPrada في الجادة الخامسة بنيويورك (أغلى مناطق نيويورك) بمراكز طباعة ثلاثية الأبعاد في بروكلين (أفقر مناطق نيويورك)، وقد يكون لدى بعض الأشخاص حتى طابعة في المنزل. في الوقت نفسه، بدلاً من الاتصال بخدمات العملاء في بنغالور-الهند للشكوى من طابعتك، يمكنك التحدث مع ممثل AI في Cloud Google ليتحدث معك بلهجة ونغمة صوت تم تصميمها وفقاً لتفضيلاتك). المشكلة أن العمال العاطلين حديثاً ومشغلي مراكز الاتصال في دكا وبنغالور ليس لديهم التعليم اللازم للتحول إلى تصميم قمصان عصرية أو كتابة كود الكمبيوتر – فكيف سيعيشون؟

إذا كانت طابعات D3 والذكاء الاصطناعي AI ستأخذ مكان النيباليين والبنغاليين والهنود، إذاً فإن الإيرادات التي كانت تتدفق في السابق إلى جنوب آسيا ستملأ الآن خزائن عدد قليل من عمالقة التكنولوجيا في كاليفورنيا. فبدلاً من تحسين النمو الاقتصادي للظروف في جميع أنحاء العالم، قد نرى ثروة جديدة هائلة يتم إنشاؤها في محاور عالية التقنية مثل وادي السيليكون، بينما تنهار العديد من البلدان النامية.

بالطبع، قد تتقدم بعض الاقتصادات الناشئة – بما في ذلك الهند وبنغلاديش – بسرعة كافية للانضمام إلى الفريق الفائز. مع إعطاء الوقت الكافي، قد يصبح أطفال أو أحفاد عمال النسيج ومشغلو مراكز الاتصالات والخدمة (Call Centers) هم المهندسين ورجال الأعمال الذين يبنون ويملكون أجهزة الكمبيوتر والطابعات ثلاثية الأبعاد. لكن الوقت للقيام بهذا التحول آخذ في النفاد وقصير جداً. في الماضي، كانت العمالة الرخيصة غير الماهرة بمثابة جسر آمن فوق الفجوة الاقتصادية العالمية، وحتى إذا تقدمت الدولة ببطء، يمكنها أن تتوقع الوصول إلى الأمان في نهاية المطاف. كان اتخاذ الخطوات الصحيحة أكثر أهمية من إحراز تقدم سريع. ولكن الجسر يهتز الآن، وقد ينهار قريباً. من المحتمل أن يكون أولئك الذين تجاوزوها بالفعل – الذين يتخرجون من العمالة الرخيصة إلى الصناعات ذات المهارات العالية – على ما يرام. لكن أولئك المتخلفين قد يجدون أنفسهم عالقين في الجانب الخاطئ من الهوة، دون أي وسيلة للعبور. ماذا تفعل عندما لا يحتاج أي شخص لعمالك الرخيصين غير المهرة، وليس لديك الموارد لبناء نظام تعليمي جيد وتعليمهم مهارات جديدة؟
قد يوافق الناخبون الأمريكيون على أن الضرائب التي تدفعها أمازون وجوجل وتسلا في الولايات المتحدة يمكن استخدامها لإعطاء رواتب أو خدمات مجانية لعمال المناجم العاطلين عن العمل في ولاية بنسلفانيا وسائقي سيارات الأجرة العاطلين عن العمل في نيويورك. ولكن، هل يوافق الناخبون الأمريكيون أيضاً على أنه يجب إرسال هذه الضرائب لدعم العاطلين عن العمل في بنغلاديش أو الهند أو حتى الأماكن التي وصف بعضها الرئيس ترامب على أنها “دول مارقة”؟
بناءً على ذلك سيكون تأسيس الجسور التي تحدثنا عنها في هذا المبحث وما سبقه لمشاريع الصحة والتعليم والزراعة وحاضنات البحث العلمي للخبراء المتناثرين في الدول المتقدمة ثم اقتطاع الدخل الأساسي الوطني UBI لتغطية حاجات أخوتهم في بيئاتهم الأم بمثابة جسر الأمان لمجتمعاتنا الإسلامية ومجتمعات العالم الثالث عبر الفجوة الاقتصادية العالمية التي ستصبح في المستقبل القريب وادي سحيق.

الخاتمة:
بعد استعراضنا للديناميات وحقائق المستقبل في المجتمعات الاقتصادية والتجمعات البشرية العالمية والمحلية خصوصاً في دولنا المدمرة ,يمكن القول إنّ كثيراً من مشاريع إعادة إعمار الدول المدمرة -مثل سوريا العراق اليمن ليبيا ودول أواسط آسيا وإيران وغيرها ، لبناء البلد وإعادة توطين الإنسان ووسائل عيشه من عمران ونبات وحيوان من خلال إتاحة الفرصة لتجميع ما عملت المنظومة الحاكمة على تفريقه في القرنين الماضيين بشتى الوسائل عن بعضه بعضا وهم؛ الإنسان ،الأدوات ، والأفكار- هو أمر قابل للتحقيق بإرادة النخبة المخلصة وليست جرعة تخدير من الخيال العلمي .إن إعادة تجميع هذه العناصر الثلاثة (الإنسان ،الأدوات ، والأفكار) بما تقدمه لنا التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي وفرصة الفوضى الحالية الكبيرة في المنظومات الحاكمة التي خلقتها أزمة كورونا سوف تمكننا من أن نعيد مفهوم الاستخلاف في الأرض بمعناه الحقيقي لكل البشرية.

 
 

والله من وراء القصد
د. أحمد سامر العش

 

 
 
 
 
 
 

المراجع
1.كتاب الناس، والسلطة، والأرباح: الرأسمالية التقدمية لعصر السخط للمؤلف جوزيف إي. ستيجليتز2019.
people, Power, and Profits: Progressive Capitalism for an Age of Discontents Joseph E. Stiglitz 2019.
2. مقال بقلم Peter H. Diamandis بيتر دايامنتس، 13 ديسمبر 2016 “إذا سرقت الروبوتات والذكاء الاصطناعي وظائفنا، يمكن أن يساعد الدخل الأساسي العالمي”. مركز التفرد (Singularity Hub). 24 سبتمبر 2020.
Article by Peter H. Diamandis, MD -Dec 13, 2016 “If Robots and AI Steal Our Jobs, a Universal Basic Income Could Help”. Singularity Hub. Retrieved 24 September 2020.
3. مقال نشر في مجلة الشؤون الخارجية بقلم فرانسيس فوكوياما بعنوان “الوباء والنظام السياسي” إنه يأخذ دولة. يوليو / أغسطس 2020.
Article published at foreign affairs Magazine by Francis Fukuyama” The Pandemic and Political Order” It Takes a State. July/august 2020.
4. رولاند ريغان في خطاب تنصيبه الأول يوم الثلاثاء 20 كانون الثاني 1981
First Inaugural Address of Ronald Reagan TUESDAY, JANUARY 20, 1981

 

لتحميل المقالة

بناء الدول المدمرة في زمن مابعد كورونا

Related Posts