كتب الشاعر الألماني العظيم هاينريش هاينه Heinrich Heine : «عندما يغادر الأبطال، يدخل المهرجون إلى الحلبة».
يعجُّ العالمُ هذه الأيامَ بالمهرجين، فهم من يتصدرون المشاهد اليومية في كل المجالات، والعجيب أن هؤلاء يحاضرون علينا دائمًا بدروس في الأخلاق والبراغماتية في الوقت نفسِه؛لذا علينا أن نُعيد تعريفَ المعرَّفِ حتى نكشف ألعاب هؤلاء المهرجين. المهرجون عند استعراضِهم فوق الحلبة لا يلعبون بقوانين واضحةٍ على عكس الأبطال الحقيقين، ربّما لأن القواعدَ الواضحة لا تتناسب مع شخصياتهم المهرجة!
الأخلاق بالمبدأ هي أن تمارس الفضيلةَ حبًّا بها لا خوفًا من الآخرين ولا رجاءً لثواب ولا رعبًا من عقاب. في الشعوب الأخلاقية لا يسرقون ولا يكذبون ولا يُخلفون في المواعيد؛ لأن ضميرهم يقف فوق رأسهم رقيبًا عليهم.
كان الفلاسفة هم المربّين الكبار للشعوب الأوروبية. فالفلاسفة بالنسبة لهم هم قادةُ الشعوب بعد الأنبياء. ولولاهم لما حصل كلُّ هذا التطور والتقدم. من المتفق عليه أن أكبرَ فيلسوفٍ أخلاقي في الغرب هو إيمانويل كانط Immanuel Kant 1724-1804. ومن المعلوم أيضًا أنه كان يضع على مكتبه صورةً واحدةً وهي صورة جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau1712-1778 الذي كان يعدّه بمثابة أستاذه وقدوته من الناحية الأخلاقية.
يقول كانط إنه قبل الاطلاع على فكر روسو كان يولي للمظاهر الخارجية أهمية كبرى. وكان يعتقد أن المثقفين والمتعلمين وأصحاب الوجاهات هم أفضلُ بطبيعة الحال من الناس العاديين أو البسطاء الأميين. ولكنه اكتشف لاحقًا أن الفلاح أو الإنسان البسيط قد يكون أفضلَ أخلاقيًّا من حَمَلة أرفع الشهادات العليا. وعندئذ عرف أن هناك فرقًا بين العلم والأخلاق.
هناك أشخاصٌ كلما زاد علمُهم، زاد خبثُهم ومكرهم. وقد حذّرنا فرانسواز رابليه François Rabelais 1552 من ذلك قبل كانط عندما قال عبارته الشهيرة: «علمٌ بلا ضمير خرابٌ للروح». وبالتالي فالأخلاق أو النزاهة الشخصية أولًا وقبل كل شيء.
الطيبةُ الداخلية قبلَ كلِّ شيء. نعم؛ إنها المعيارُ الأساسي، فقد يكون هناك شخصٌ أجنبيٌّ غريبٌ عنّا كليًّا ولكنه طيبٌ فاعلٌ للخير، وقد يكون هناك شخصٌ من عقيدتنا ومذهبنا ولحمنا ودمنا ولكنه شرير، فهل نضعُهما على ذات المستوى؟ هل نستسلم للتعصب والعصبية؟ الأخلاقُ إمّا أن تنطبقِ على الجميع وإلّا فإنها ليست أخلاقًا. قال تعالى:” فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (الزلزلة 7-8). الهويّات الطائفيّة والإثنيّة تندفع إلى سويّة اللامعقول في مناطقنا. نحن اليوم مجرّدُ سنّةٍ وشيعة، وعرب وأكراد، ومسلمين ومسيحيّين… وما من تعريف آخر تقريبًا. الهويّات هذه، هي بطبيعتها مضادّةٌ لهويّات أخرى، وهي تندفع إلى اعتناق أكثر الأفكار تخلّفًا ورجعيّة وأصوليّة وتدميرًا للمجتمعات. يحصل هذا بإيقاع شبه يوميّ. العصبيّة الطائفيّة المتورّمة هي من أعادت انتخابَ ملوك الطوائف في لبنان، واحرقت بلدًا بكامله في العراق وسوريا، وستكون وقودًا لفناء أبناء المنطقة بكاملهم، إذن المشكلة ليست فقط بصندوق انتخاباتٍ حرٍّ وشفاف أو مال سياسي هنا وهناك!
لو كان جميع الناس يكذبون، فلن يعود أحدٌ يصدّق أحدًا، وعندئذ تختلُّ العلاقاتُ في المجتمع، ويصبح التعامل بين البشر مستحيلًا أو عبثيًّا. ولو كان جميع الناس لصوصًا يسرقون، فعندئذ لن تعود هناك ملكيةٌ خاصة، ولا ازدهارٌ لأي شخص، ولا ثروة لكي تُسرق أصلًا. وعندئذ تصبح الحياة الاجتماعية جحيمًا لا يطاق، وإذا كان الجميع يقتلون، فلن يعود هناك أمانٌ لأحد، وسوف تنهار الحضارةُ البشرية كلُّها.
الكذبُ والنفاقُ يهددان أكبرَ وأعرقَ ديمقراطية في العالم، ساجد جاويد وزير الداخلية البريطاني المستقيل في 5/07/2022 قال: “إنه لم يعدْ يحتملُ الكذب والنفاق”. يعتقد الخبراء الأميركيون أن الإنتاج العالمي من القمح سيزداد هذا العام بمقدار 3 ملايين طن، والذرة ستعطي حوالي 10 ملايين طن من الفائض. وكما قال السفير الصيني لدى الاتحاد الروسي، تشانغ هانهوي Zhang Han Hui ، لصحيفة «أرغومنتي إي فاكتي» الروسية، فإن الإمداداتِ الغذائيةَ العالمية كلَّها، بالنظر إلى هذه البيانات، لا تستدعي القلق. وعلى ضوئها، فإن الضجة التي أثيرت في الغرب حول الصعوبات في إمدادات القمح من أوكرانيا، والتي هي قليلة الأهمية للسوق العالمية، غيرُ مفهومة تمامًا، ولا تندرج إلا تحت بند التهريج العبثي لإحراق المسرح بمن عليه؛ لأن حجمَ إمدادات القمح من أوكرانيا لا يتجاوز 5 ملايين طن، بينما سيتجاوز المحصول لهذا العام 130 مليون طن في روسيا وحدها، وسيكون بإمكان روسيا عرضُ أكثر من 50 مليون طن للتصدير في الأسواق العالمية!
تبدو الحدودُ بين الأخلاق والبراغماتية دقيقةً للغاية، وتجاوز أيٍّ منهما لحدوده مع الآخر خطيرٌ للغاية، وهذا أمرٌ فوق إمكانية المهرجين بطبيعته، بل لا بد له من أبطالٍ وعظماء وفوق ذلك مخلصين صادقين مع أنفسهم ومع من حولهم!
في يوليو/تموز من عام 1853، احتلت روسيا إمارتي الدانوب (مولدافيا و والاشيا) للضغط على إسطنبول، لكن ذلك هدد شريانَ الحياة الاقتصادي للنمسا، وهو نهر الدانوب.وبالنسبة إلى “الرجل المريض”، أثبتت تركيا حنكتَها بشكل ملحوظ وبراغماتية عالية، إذ تجاوزت موقف النمسا وبريطانيا وفرنسا، وهي دولٌ كانت تفضل حينئذ التسوية الدبلوماسية، وأعلنت الدولة العثمانية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1853 وهاجمت الروس.
حاربت بريطانيا وفرنسا إلى جانب الأتراك، وكانتِ الخسائرُ البشريةُ هائلةً في حرب القرم 1853-1856 حيث لقي 25 ألف بريطاني و100 ألف فرنسي وما يصل إلى مليون روسي حتفهم، وكلُّهم تقريبًا بسبب المرض والإهمال.
بموجب معاهدة باريس الموقعة في 30 مارس/آذار من عام 1856 أعادت روسيا جنوب بيسارابيا ومصب نهر الدانوب إلى الدولة العثمانية، ووُضعت مولدافيا و والاشيا (رومانيا الحالية) وصربيا تحت ضمان دولي وليس روسي، كما وعد السلطان العثماني باحترام حقوق رعاياه المسيحيين، وتم منعُ الروس من الحفاظ على أسطول بحري في البحر الأسود أو إعادة تحصين بومارسوند.
ربما كانت تلك الحربُ نقلةً براغماتية من السلطان العثماني عبد المجيد الأول، حيث كان للحلفاء بالفعل جيشٌ قوامُه 60 ألفًا في تركيا للدفاع عن إسطنبول، لكن هل كانت سقطة أخلاقية من السلطان!؟
ترك القرارات المصيرية في حياتنا بيد السلطانُ أو رجل واحد، سواء كان رجلًا بطلًا أو مهرجًا عابثًا مسألةٌ علينا أن نعيد التفكير بها، وإن أتت متأخرةً لقرون! فلطالما كان السلطانُ من يفرض مذهب الأمة ودينها، وهذا يتبع فقط لمعاييره الشخصية والحدود التي يرسمها بين البراغماتية والأخلاق. الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم في القرارات المصيرية، طلب المشورة، وهو المحدد الأول للأخلاق، فهو المؤتمن الوحيد عليها من خالق الكون، وذلك لأن البراغماتية ميزانٌ مرنٌ، أما الأخلاق، فميزان ثابت غير مرن.
ربّما هنا المفتاح فمعيارُ البراغماتية جماعيٌّ مرن، أما معيارُ الأخلاق، فهو ثابتٌ لا يتبع اتفاق الجماعة (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ-النمل 14). في الغرب الليبرالي الاثنان: الأخلاق، والبراغماتية ميزان جماعي اتفاقي، وفي الشرق الطائفي الغارق في العصبيّة المتورمة فالاثنان فرديان.
لذلك نرى العالم هذه الأيامَ لا يتصدرُه إلا المهرجون الذين شئنا أم أبَينا سوف يشعلون النار قريبًا بنا جميعًا!
واللهُ من وراء القصد